مع تصاعد الأزمة.. إعلاميون وحقوقيون في مواجهة تراجع الحريات بقيرغيزستان

مع تصاعد الأزمة.. إعلاميون وحقوقيون في مواجهة تراجع الحريات بقيرغيزستان
قيرغيزستان - أرشيف

في بلد يُقدَّم دولياً بوصفه نموذجاً نسبياً للديمقراطية في آسيا الوسطى تتصاعد ممارسات القمع بحق الإعلاميين والناشطين الحقوقيين في قيرغيزستان بشكل يثير قلقاً واسعاً، ففي الأسابيع الأخيرة أصدرت محكمتان في العاصمة بيشكيك أحكاماً بالسجن بحق صحفيين ونشطاء في قضايا اتسمت بالغموض وغياب الأدلة، ما يعكس تحوّلاً مقلقاً نحو تقييد الحريات المدنية والسياسية، وهذه التطورات ليست معزولة، بل تمثل جزءاً من سياق أوسع من تضييق الخناق على حرية التعبير والحق في التنظيم السلمي، في تناقض صارخ مع التزامات الدولة بموجب القانون الدولي.

وأفاد موقع "Civil Rights Defenders" الجمعة أنه في 17 سبتمبر الجاري قضت محكمة محلية بإدانة أربعة من العاملين السابقين في مؤسسة "كلووب ميديا" المستقلة بتهمة "التحريض على الفوضى"، من بين المتهمين مصورا الفيديو جومارت دولاتوف وألكسندر ألكسندروف، اللذان حُكم عليهما بالسجن خمس سنوات، إضافة إلى المحاسبتين أوليسا نيسيتيرينكو وإيلينا كوجانوفا، اللتين صدر بحقهما حكم بالسجن المشروط ثلاث سنوات.

القضية استندت إلى مواد فيديو من إنتاج منصة إعلامية أخرى تدعى "تيميروف لايف"، تعمل من خارج قيرغيزستان، لكن خبراء الدولة أنفسهم أكدوا أن المقاطع ليست من إنتاج المتهمين، ورغم ذلك، مضت المحكمة في إصدار أحكامها.

بعد يوم واحد فقط أدانت محكمة أخرى الناشطة الحقوقية البارزة ريتا كاراسارتوفا بتهم مماثلة عقب نشرها رسالة على فيسبوك من ناشط معارض، ورغم غياب الشفافية في عرض الأدلة، طالبت النيابة بعقوبة تصل إلى عشر سنوات، قبل أن تصدر المحكمة حكماً بالسجن المشروط خمس سنوات وغرامة مالية.

ديمقراطية هشة وإرث سلطوي

تاريخ قيرغيزستان السياسي منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 تميز بقدر من الانفتاح مقارنة بجيرانها مثل كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، إلا أن هذا الانفتاح ظل هشاً، تخللته انتفاضات شعبية أسقطت رؤساء في أعوام 2005 و2010 و2020، وهذه التحولات العنيفة كشفت هشاشة المؤسسات الديمقراطية، ودفعت السلطات إلى اعتماد سياسات أكثر تشدداً لضبط المجال العام. 

منذ عام 2021، ومع صعود الرئيس صدر جاباروف، ارتفعت وتيرة التضييق على المعارضة والمجتمع المدني، وقد سجلت منظمة "فريدوم هاوس" تراجع قيرغيزستان في مؤشر الحرية العالمي إلى مرتبة "غير حرة جزئياً"، بعدما كانت تُعد "حرة نسبياً" قبل سنوات قليلة.

مؤسستا "كلووب ميديا" و"تيميروف لايف" باتتا رمزاً للإعلام المستقل في قيرغيزستان، من خلال تحقيقاتهما الاستقصائية التي كشفت قضايا فساد لمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى، غير أن نشاطهما الاستقصائي جلب عليهما تضييقاً متزايداً، بدءاً من تجميد الحسابات المصرفية إلى الإغلاق القسري، وصولاً إلى الاعتقالات والترحيل.

وفق لجنة حماية الصحفيين، شهدت قيرغيزستان منذ بداية 2023 ما لا يقل عن 15 حالة اعتقال أو ملاحقة قضائية لصحفيين بسبب تقارير نقدية، كما أُغلقت عدة منافذ إعلامية مستقلة أو أُجبرت على التوقف تحت ضغط القوانين الجديدة التي تقيّد حرية النشر الإلكتروني.

موقف المنظمات الحقوقية

نددت منظمات دولية بارزة، منها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، بالأحكام الأخيرة، ووصفتها بأنها "ملفقة" وتهدف إلى إسكات الأصوات الناقدة، كما أعرب مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن قلقه من "استخدام القضاء أداة لتصفية الحسابات السياسية".

من جهتها، دعت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قيرغيزستان إلى احترام التزاماتها الدولية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل حرية التعبير والتجمع، ويمنع الاعتقال التعسفي.

كونها طرفاً في اتفاقيات أساسية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب، تتحمل قيرغيزستان التزاماً قانونياً بحماية الحق في حرية التعبير والتنظيم السلمي، كما أن دستورها ينص على حماية هذه الحقوق. غير أن الأحكام الأخيرة تكشف فجوة واسعة بين الالتزامات الرسمية والممارسات الواقعية.

ويرى خبراء القانون الدولي أن "تسييس القضاء" وتحويله إلى أداة لمعاقبة المعارضين يقوّض مصداقية مؤسسات الدولة، ويضعها تحت رقابة متزايدة من هيئات دولية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

التداعيات الداخلية والخارجية

داخلياً، يسهم القمع في تعزيز مناخ الخوف ويُضعف المجتمع المدني الذي كان تاريخياً نشطاً في قيرغيزستان، كما قد يؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطنين والدولة، بما يفاقم احتمالات الاحتجاجات الشعبية في المستقبل.

خارجياً، تهدد هذه الانتهاكات سمعة قيرغيزستان بوصفها واحدة من الدول القليلة في آسيا الوسطى التي حاولت الحفاظ على صورة ديمقراطية نسبية، كما قد تنعكس سلباً على علاقاتها مع شركاء غربيين يشترطون احترام حقوق الإنسان لتقديم الدعم الاقتصادي والتنموي.

وفق بيانات الأمم المتحدة، شهدت قيرغيزستان خلال العام 2024 أكثر من 120 حالة موثقة لانتهاكات تتعلق بحرية التعبير والتجمع، منها اعتقالات ومحاكمات لناشطين وصحفيين، كما سجلت نقابة الصحفيين المحليين ارتفاعاً بنسبة 40 في المئة في شكاوى التضييق الإعلامي مقارنة بالعام السابق.

تمثل الملاحقات القضائية الأخيرة في قيرغيزستان جرس إنذار بشأن المسار الذي تتخذه البلاد، فهي تعكس عودة متسارعة إلى أساليب القمع السلطوي، بما يقوض ما تبقى من مكتسبات ديمقراطية حققتها على مدى ثلاثة عقود، وبينما يتابع العالم هذه التطورات بقلق، يبقى مصير النشطاء والصحفيين في قيرغيزستان اختباراً حقيقياً لمدى التزام المجتمع الدولي بالدفاع عن القيم التي ينادي بها، وعن حقوق الإنسان الأساسية التي لا تحتمل المساومة. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية